إن تجربة تأسيس اتحاد المغرب العربي لم تكن
سابقة من نوعها في توحيد تصورات ورؤى دولة، إذ سبقتها تجارب أخرى، والتي تمثلت أساسا في
تكوين " مكتب المغرب العربي" إبان الاستعمار في فبراير 1947 بالقاهرة وكان هدفه التنسيق النضالي بين الحركات الوطنية
في دول المغرب العربي. وبعد استقلال المغرب وتونس، قررت المنظمات السياسية
المغاربية والتي تضم كل من حزب الاستقلال المغربي وجبهة التحرير الوطني الجزائري و
الحزب الدستوري الجديد التونسي عقد "مؤتمر الوحدة" بمدينة طنجة سنة 1958 قصد التضامن مع
الجزائر لتحقيق استقلالها والبحث عن الوسائل الكفيلة لتحقيق الوحدة المغاربية عبر
صيغة الفيدرالية. وتم بعد ذلك عقد مؤتمر
ثاني بطنجة بين وزراء الاقتصاد لكل من المغرب والجزائر وتونس وليبيا تمحور حول
التنسيق بين المخططات الاقتصادية وتمويل مشاريع التنمية المشتركة. وقد تم بالفعل
عقد خمس اجتماعات وزارية بين سنة 1964 وسنة 1975 تلاها بعد ذلك فتور طويل أحبط تنفيذ القرارات ذات المفعول
الاقتصادي وأوقف مسيرة إقامة الاتحاد المغاربي.[1]
يعد تأسيس اتحاد المغربي العربي بتاريخ 17 فبراير 1989 في مدينة مراكش بالمغرب محطة تاريخية مهمة من أجل "...تمتين أواصر الأخوة التي تربط الدول الأعضاء وشعوبها ببعضها البعض وفتح الحدود بين دولها لمنح حرية التنقل الكاملة للأفراد والسلع، وتحقيق تقدم ورفاهية مجتمعاتها والدفاع عن حقوقها، والمساهمة في صيانة السلام القائم على العدل والإنصاف، ونهج سياسة مشتركة في مختلف الميادين، والعمل تدريجيا على تحقيق حرية تنقل الأشخاص وانتقال الخدمات والسلع ورؤوس الأموال فيما بينها".
يمثل هذا الاتحاد مجموعة سياسية واقتصادية تضم
الدول المغاربية الخمس (تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا وليبيا)، وهو تكتل يهدف
إلى إقامة التعاون والتنسيق بين دوله من أجل تحقيق التكامل المغاربي، حيث تأسس هذا
التكتل كمحاولة لإنشاء تنظيم إقليمي يعضد المصالح المشتركة للدول الأعضاء وينظم
علاقاتها الخارجية في إطار جماعي تعاوني.
غير أن هذا الاتحاد الذي عمل على الانتقال
بالمنطقة من العلاقات الجامدة والمتوترة، إلى علاقات يسودها الهدوء والتعاون لم يكن فعالا بالشكل
المطلوب. ذلك أنه منذ تأسيسه عرف تعثرا في مسيرته إن لم نقل أن قطار الوحدة
والاندماج توقف دون تحديد تاريخ لانطلاقه من جديد، فجل الأهداف التي سطرها والاتفاقيات
التي تم إبرامها بين أعضائه، سواء المتعلقة منها بالمبادلات التجارية أو التعريفة
الجمركية أو المواصلات، لم تدخل حيز التنفيذ، ولعل تأجيل القمم الخاصة بانعقاده
وتعثرها في كل مرة، دلالة على صعوبة أساسية تتمثل في تجميع قيادات دول الاتحاد.
فمنذ تاريخ تأسيس هذا التكتل، لم يعرف
المشهد ألمغاربي أي انجاز يذكر، لا ميلاد المصرف ألمغاربي للاستثمار والتجارة
الخارجية ولا الأكاديمية المغاربية للعلوم، ولا السوق المغاربية المشتركة... . حيث
توقف الاتحاد المغاربي بكيفية شبه كاملة، ولم يحقق أي من الأسباب التي قام من أجلها.[2]
لقد عرفت الدول المغاربية منذ تأسيس
اتحادها سنة 1989 أحداثا كثيرة وتحولات
عميقة. فعلى المستوى الداخلي، أدى الحراك الشعبي في إطار ما سمي بالربيع العربي
إلى إسقاط النظامين التونسي والليبي، وإلى إحداث إصلاحات دستورية وسياسية في كل من
الجزائر والمغرب وموريتانيا.
أما على الصعيد الخارجي، فبالإضافة إلى
العولمة التي مست انعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية مجموع الدول المغاربية، فإن
التحديات الأمنية المتمثلة في تنامي التنظيمات
المتطرفة والأزمات العميقة لدول منطقة الساحل والصحراء والشبكات المتعددة للمافيا
وتهريب المخدرات والسلاح...، أصبحت تهدد أمنها واستقرارها.
إن تأسيس الاتحاد الذي هو بالأساس عمل
نهضوي، حضاري يحقق أحلام وطموحات الشعوب المغاربية، لما يحمله من منافع مشتركة من
أمن واستقرار ونهضة تنموية شاملة، إلا أنه رغم أهميته، ظلت حصيلته وإنجازاته ضعيفة
وهزيلة مقارنة بمدة الثلاثين سنة التي عمرها، وبحجم التحديات والتحولات التي
عرفتها المنطقة ، حيث تخللته أعطاب وتوترات كثيرة جعله غير قادر على التصدي
للتحديات الراهنة.
انطلاقا من هذه المعطيات، يمكن بلورة إشكالية
هذا الموضوع حول محورين أساسيين، حيث سنعالج أهم المعيقات التي تحول دون تفعيل الاتحاد
المغاربي في المحور الأول، في حين سنخصص المحور الثاني للعناصر الأساسية التي
نراها كفيلة لبت الروح في الجسم المغاربي وتفعيل آلياته قصد تلبية رغبات دول وشعوب
المنطقة.
المحور الأول: معيقات بناء الاتحاد
المغاربي
تتعد التحديات التي تواجه الوحدة
المغاربية، وأخذت اتجاهات عديدة منها ما هو سياسي وكذا اقتصادي ومؤسساتي، وكلها حالت
دون التوصل إلى حالة من التكتل تضمن قوة لأعضائه في مواجهة العالم الخارجي. في
الوقت الذي تكتلت فيه أوربا الغربية سياسيا واقتصاديا وفرضت نفسها كقوة عالمية
بالرغم من الاختلاف الذي تعرفه دوله على جميع المستويات ، بعكس الدول
المغاربية التي تتوفر لها جميع عوامل التكتل والاتحاد (اللغة، الدين ، العرق، التاريخ
المشترك ،الحضارة....).
إن بناء الاتحاد المغاربي يواجهه الكثير من
المعيقات التي ظهرت بعد الاستقلال بين دوله، والتي يمكن اختزالها بشكل عام في
ثلاثة أفكار أساسية:
أولا: معيقات الانغلاق الوطني وسياسات
المحاور
إذا كانت فكرة الاتحاد المغاربي تكرست في
وجدان الشعوب المغاربية أثناء نضالها المشترك ضد الاستعمار،[3]فإنه
بعد الاستقلال انخرطت كل دولة على حدة في بناء دولتها الوطنية تحت هاجس الصراع على
السلطة، ورسم الخطوط العريضة لهويتها ونظامها السياسي. حيث أصبح من المسلمات أن
طبيعة هذه الأحداث الداخلية عزلت كل دولة عن الأخرى ضمن دائرة وطنية ضيقة بعيدة كل
البعد عن طموحات "الأمة المغاربية الواحدة"، وتحولت المنطقة إلى ساحة للصراع والمنافسة والمزايدة باسم المصالح
الوطنية الضيقة.
هذه النعرات الوطنية في ممارسات بعض النخب
الحاكمة، أدت إلى الانغلاق تجاه الجيران، وإلى إحداث التباعد الإنساني والثقافي
بين الشعوب المغاربية ، وأصبح واضحا أن فكرة التكامل لا تشكل أولوية لدى النخب
المغاربية، وهو الأمر الذي يعكسه بوضوح الهامش الضئيل المخصص في خطط التنمية للدول
الخمسة لخيار التكامل المغاربي.
فمنذ استقلالها، انكبت كل دولة على حدة على
تنمية اقتصادها، حسب إيديولوجية لا تقوم فلسفتها الاقتصادية على مقترب شمولي يأخذ
بعين الاعتبار الفضاء المغاربي ومحددات تكامله، حيث اعتمدت كل دولة من دول الاتحاد
برنامج خاصة للتنمية ، وهي البرامج التي جاءت كلها في سياق التبعية التي نشأت فيه،
حيث رسخت الاندماج في التقسيم الدولي للعمل والتبعية الهيكلية للخارج.
فضلا عن هذه المعيقات، أدت الخلافات
العقائدية بين الأنظمة السياسية المغاربية إلى عرقلة مشروع الاتحاد السياسي لوحدة
المغرب الكبير، حيث أن هذه الأخيرة لا زال النظام الحاكم فيها يمارس الدور
الاستراتيجي الأكبر في وضع وتنفيذ السياسات دونما سماح بمشاركة من جهات سياسية أو اجتماعية
أو اقتصادية أخرى، ومن ثم نجد درجات ومستويات التكامل ترتبط إلى حد بعيد بمدى
اتفاق أو اختلاف النخب الحاكمة . ينضاف إلى ذلك الافتقار لدى هذه النخب إلى الخبرة الفنية
والإدارية اللازمة لبلورة عملية التكامل الاقتصادي على أرض الواقع.
كما أن المنطقة عرفت سياسات محورية زادت من
تفاقم التشتت بين الدول المغاربية والحذر وعدم الثقة فيما بينها. في هذا الصدد تم
التوقيع على معاهدة "الأخوة" بين الجزائر وليبيا سنة 1975 ومعاهدة
"الوفاء والإخاء" بين الجزائر وتونس وموريتانيا سنة 1983 ومعاهدة
"الاتحاد العربي-الإفريقي" بين المغرب وليبيا سنة 1984. وقد بنيت هذه
المعاهدات في جوهرها على إقصاء طرف من الأطراف واحتواءه ولو ظرفيا.
ينضاف إلى ذلك، أن كل دولة مغاربية انخرطت
في ظل القطبية العالمية التي كانت سائدة آنذاك في المعسكر الذي تميل إليه إيديولوجيا
وسياسيا، غير مبالية بطموحات الاندماج المغاربي ووزنه الاستراتيجي على الصعيدين
العالمي والإقليمي، مما زاد في التصدع والتوتر بين أعضائه.
ثانيا: المعيقات السياسية والمؤسساتية
إن آليات عمل مؤسسات الاتحاد المغاربي
بالشكل الذي هو عليه الآن، لا يمكن أن تبلور على أرض الواقع الأهداف التي أسس من
أجلها، نظرا لعدم فعاليتها وهشاشة بنائها. حيث فشل الاتحاد مرات عديدة في عقد قمته
السنوية العادية، وهو الفشل الذي يعزى إلى كون مجلس الرئاسة الذي يتكون من قادة
الدول الخمس، باعتباره الهيئة العليا السيادية تتخذ قراراته بالإجماع، الأمر الذي
مثل العائق المؤسسي الأكبر لتفعيل مؤسسات الاتحاد على جميع المستويات.
لقد شكلت آلية الإجماع عقبة فعلية أمام اتخاذ
أية قرارات ذات مفعول اقتصادي أو اجتماعي ، حيث ترتب عن هذه القاعدة التي أخذت بها
الدول المغاربية[4] آثار
سلبية على العمل المغاربي المشترك، نتيجة استحالة اتخاذ القرارات لاشتراطها موافقة
كل الدول الأعضاء، الأمر الذي لا يتحقق، ويؤدي بالتالي إلى عرقلة المشاريع وتعطيل آليات
الاتحاد.
إن قاعدة الإجماع في ظل الخلافات السياسية والعقائدية، وغياب الإرادة
السياسية وتهميش المجالس الأخرى (مجلس الوزراء، مجلس الشورى) نتج عنه عمليا تجميد
الاتحاد وإقبار كل المشاريع الكفيلة بالنهوض به. وتبقى مؤسسات الاتحاد من أمانة
بالرباط ومجلس الشورى بالجزائر والهيئة القضائية بنواكشوط والجامعة المغاربية
والأكاديمية المغاربية للعلوم بطرابلس
والبنك المغاربي للتجارة و الاستثمار في تونس غير قادرة على تجسيد التكامل المنشود
وتحويل الحلم المغاربي إلى واقع ملموس.
كما أن آلية التصديق من جميع الدول الأعضاء
حالت دون دخول أغلب المعاهدات حيز التنفيذ، حيث أنه من أصل 37 اتفاقية تم إبرامها
في إطار الاتحاد، لم يستكمل منها شروط الدخول حيز التنفيذ إلا ست اتفاقيات، في حين
كان بالإمكان الاكتفاء بالتصديق عليها من طرف ثلاثة أعضاء من دول الاتحاد لتسريع
تنفيذها وإعطاء نوع من الفعالية لمؤسسات الاتحاد بغية منع طرف واحد أو اثنين من
عرقلة مسيرة هذا التكتل الوحدوي.
إن الاتحاد المغاربي ولد من البداية ميتا، حيث
لم يشيد على مؤسسات مرنة وتشاركية في اتخاذ قراراته، الشيء الذي حد من تفعيل الاتفاقيات
التي تم المصادقة عليها والتي دخلت حيز التنفيذ على أرض الواقع.[5]
لقد اهتمت الدول المغاربية كثيرا بالجانب
السياسي الذي يتحكم فيه المزاج والنزوات العابرة والمصالح الظرفية الضيقة، وأغفلت
الجانب الاقتصادي الذي يعد المدخل الأساسي لبناء صرح مغاربي مندمج، إذ أن التكامل الاقتصادي المتدرج يسبق عادة
التكامل السياسي، كما يبرز ذلك من خلال
تجربة الاتحاد الأوربي.في حين تبقى الدول المغاربية متفرقة في ظل المتغيرات
المفاجئة عالميا و إقليميا، حيث المخاطر المستجدة أكبر من أن تتحملها دولة واحدة
منفردة.
ثالثا: التحولات الجيوسياسية بالمنطقة
المغاربية
عرفت المنطقة المغاربية تحولات سياسية مهمة
أثرت على سياساتها الداخلية والخارجية إثر الرجات العربية التي عرفتها سنة 2011،
والتي انطلقت شرارتها من تونس وشملت ليبيا ومصر وما زالت تسري في الجزائر، وهي
التحولات التي أخرجتها من الجمود الذي دام لأزيد من عشرين سنة.[6]
حيث شكلت الثورتين التونسية والليبية
تغيرات جذرية في نظام الدولتين، بينما سنت مجموعة من الإصلاحات الدستورية
والسياسية في باقي دول الاتحاد. غير أن الملاحظ أن المنطقة
ما زالت تعيش حالة عدم الاستقرار و الحروب بالوكالة في ليبيا التي أصبحت على وشك
الانشطار، وارتباك وحيرة في الدول المغاربية الأخرى. حيث أنه بعد الهدوء النسبي
الذي شهدته الجزائر بعد أحداث الربيع "المغاربي" التي أدت إلى إصلاحات
دستورية محدودة، عادت الأوضاع إلى سياق الاحتجاج بعد إعلان الرئيس الجزائري عبد
العزيز بوتفليقة عن رغبته في الترشح لولاية رئاسية خامسة، حيث فجرت موجة غضب شعبي
رافضة للعهدة الخامسة، تطورت بعد استمرارها لأسابيع لتحمل مطالب ثورية تسعى
للتغيير الجذري للنظام القائم، وهو ما أدى إلى إعلان الجيش عن عزل الرئيس، ومازالت
الأوضاع في الجزائر إلى يومنا هذا يشوبها الغموض وعدم الاستقرار.
كما أن المنطقة المغاربية عرفت تحولات
جيوسياسية جديدة تمثلت في ظهور أزمات وتحديات وأخطار إرهابية طالت[7] بلدانها والبلدان المجاورة، وزادت من هشاشة
الأوضاع، وتضاعفت التهديدات الأمنية بشكل كبير في كل دولة على حدة وفي المنطقة
بكاملها، إلى جانب استفحال ظاهرة الإرهاب مع تنامي الحركات الجهادية والشبكات
العابرة للحدود لمافيا تهريب المخدرات والسلاح واختطاف السياح، الأمر الذي يثير
قلق المحيط الإقليمي والدولي.
كل هذه التحولات في المنطقة، أثرت ومازالت تؤثر على البناء المغاربي وتعرقل صيرورته، بل إن المستجد في كل هذا أن الدول المغاربية وبالخصوص المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا أصبحت بعد فشل الحلم المغاربي وتعثر التنسيق والعلاقات الاقتصادية فيما بينها ، تولي قبلتها نحو إفريقيا وتتهافت في بسط نفوذها بربوعها ونسج علاقات اقتصادية تشاركية مع بلدانها وتجمعاتها، علما أن دساتيرها ما زالت تتشبث بالفكرة المغاربية والمصير المغاربي المشترك.
المحور الثاني: التحديات وضرورة إعادة بناء
نظام مغاربي جديد
مازال الحلم المغاربي يراوح مكانه بعد عقود من إبرام اتفاقية مراكش في 17 فبراير 1989. حيث أن واقع الجمود الملازم لهذا التجمع رغم عناصر التقارب والتفاعل المتنوعة التي تربط دول الاتحاد المغاربي فيما بينها، لا يخدم شعوب هذه الدول ومصالحها في ظل ديناميات التحول السياسي والأمني والوضع الاستراتيجي الجديد بالمنطقة، الأمرالذي يستلزم وضع بدائل للسياسات المتبعة سابقا عبر مجموعة من المداخل.
أولا: فض نزاع الصحراء المغربية وإرساء
قواعد الأمن المغاربي
إن قضية الصحراء المفتعلة من طرف الجزائر
والذي أصبح رهانا محوريا في سياستها الداخلية والخارجية تعتبر من الأسباب الأساسية لفشل الاتحاد
المغاربي والذي يخفي في الحقيقة صراعا من أجل الزعامة العسكرية والاقتصادية في
المنطقة، وبذلك تشكل المبادرة المغربية بشأن التفاوض لمنح الصحراء حكما ذاتيا فرصة
جديدة من أجل مقاربة متميزة لحل الخلاف،
من خلال تخويل جهة الصحراء حكما ذاتيا في ظل السيادة المغربية، عبر هيئات
تشريعية وتنفيذية وقضائية.
إن هذه المبادرة التي استحسنها المجتمع
الدولي وأجمع على واقعيتها وجديتها، راعت خصوصية المجتمع القبلي للصحراء، حيث
يتكون برلمان الجهة من أعضاء منتخبين من طرف مختلف القبائل الصحراوية، وكذا من
أعضاء منتخبين عن طريق الاقتراع المباشر من طرف سكان الجهة، وذلك بغية تمثيلية
حقيقية لسكان المنطقة في برلمان الحكم الذاتي للصحراء دون المساس بمبدأ الاقتراع
العام المباشر.[8]
فضلا عن برلمان الحكم الذاتي للصحراء،
تتكون الجهة ،حسب مقتضيات الفقرات 20 و 21 و 22 و 23 و 26 من نص المبادرة المغربية، من رئيس الحكومة
منتخب من طرف برلمان الجهة وينصبه الملك، بالإضافة إلى حكومة الجهة، وكذا محاكم
الجهة والمحكمة العليا الجهوية التي يخول لها النظر انتهائيا في قوانين الجهة دون
أن يتعارض ذلك مع اختصاصات محكمة النقض والمحكمة الدستورية والمجلس الاقتصادي
والاجتماعي والبيئي.
إن مبادرة الحكم الذاتي تسعى إلى إيجاد حل
سياسي نهائي لقضية الصحراء بدعم من المجتمع الدولي ليس فيه غالب ولا مغلوب ،
وبالتالي سيؤدي تطبيقها لا محالة إلى
تقوية العلاقات بين الدول المغاربية وتوطيد البناء المغاربي، مما سينعكس إيجابا
على شعوب المنطقة اقتصاديا واجتماعيا.
فضلا عن ذلك، فإن وضع أسس للتنسيق الأمني
بين الدول المغاربية أصبح ملحا أمام معضلة الجريمة المنظمة والإرهاب، وكذا معضلة
الهجرة التي استفحلت بشكل كبير، حيث تحولت المنطقة المغاربية إلى بؤرة مهددة لاستقرار المنطقة ومحيطها في
الوقت الذي يكاد ينعدم فيه التنسيق الأمني بين الدول المغاربية.
إن هذه التحديات الأمنية تستوجب وضع سياسات أمنية مشتركة بعيدة كل البعد عن الحسابات الأمنية الضيقة لكل بلد.
ثانيا:التكامل والتعاون الاقتصادي المغاربي
إن المتتبع للخطوات المتخذة لتأهيل
الاقتصاد المغاربي سيلاحظ تعثر كل المشاريع التنموية، فبالرغم مما جاء في معاهدة
مراكش من ضرورة العمل تدريجيا على تحقيق حرية تنقل الأشخاص وانتقال الخدمات والسلع
ورؤوس الأموال فيما بينها، وإنشاء المشاريع المشتركة وتطوير القطاع الزراعي
والصناعي، وإزالة الحواجز الجمركية.
غير أن الواقع يكبح هذه الطموحات ويحدها، كون
المبادلات التجارية جد متواضعة بين البلدان المغاربية، كما أنها تخسر الملايير من
الدولارات بسبب الحواجز الجمركية المعقدة وإغلاق الحدود بين المغرب والجزائر وغياب
تشريعات متناسقة. حيث تظهر الإحصائيات الاقتصادية أن الدول المغاربية تخسر نحو 10
بلايين دولار سنويا أي ما يعادل 2% من ناتجها الوطني الإجمالي بسبب تعثر قيام
مؤسسات الاتحاد المغاربي.
ذلك أن الدول المغاربية في ظل العولمة والتكتلات
الاقتصادية، وبسبب التشرذم الذي أصابها، لا يمكن لها أن تؤهل اقتصادياتها إلا من
خلال سوق مغاربية مشتركة[9]، وخلق
منطقة التبادل الحر على المستوى المغاربي وتبني مواقف وسياسات مشتركة اتجاه
التجمعات الإقليمية الأخرى ، خصوصا الاتحاد الأوربي الذي ترتبط به اقتصاديا بشكل وثيق.
إن المنطقة المغاربية تزخر بإمكانيات
وموارد جد مهمة، من شأنها المساهمة في توفير الشروط لتكامل اقتصادي مغاربي. وذلك
بغية الحد من آفة البطالة والهجرة التي تستنزف الطاقات الشابة المكونة والمدربة
والمؤهلة على العمل والإنتاج.
لذا فقد أصبح من الضروري الانتقال من مرحلة
الإجراءات القطرية المنعزلة التنافرية التي كانت سائدة في العقود السابقة، إلى
مرحلة التنسيق الفعلي والتخطيط التوجيهي على مستوى دول الاتحاد لتحقيق التكامل
الاقتصادي باعتباره الإطار المؤسسي الملائم لاستخدام الموارد المتوفرة بشكل عقلاني
ورشيد، والمزج الفعال لعناصر الإنتاج المتباينة على مستوى تلك الأقطار التي تتقاسم
في النهاية منافع هذا التعاون وثماره الأكيدة.
في هذا السياق، تستلزم عملية التكامل الاقتصادي
المغاربي تبني برامج وخطط تكاملية متدرجة [10]تعطي
الأولوية للقطاعات الأساسية كالزراعة والنقل والمواصلات والاستثمار، والإصلاح
المالي والنقدي والمصرفي والإصلاح الضريبي والجمركي، ودعم الشركات الصغرى
والمتوسطة وتحسين بينة الأعمال والتنسيق
بين المؤسسات والمصارف الدولية، وكذلك إيلاء التنمية البشرية الأهمية القصوى. إن
بناء المقومات الاقتصادية للتكامل الاقتصادي يستدعي كذلك إنشاء مؤسسات اقتصادية مشتركة
في مختلف الميادين.
كما أنه من الضروري سن مجموعة من الإصلاحات
الاقتصادية والمالية الهيكلية داخل الدول
المغاربية قصد تسهيل وتعزيز عملية التبادل الاقتصادي والتجاري فيما بينها و لمواجهة
ظاهرة العولمة والاستفادة من جوانبها
الإيجابية.
ثالثا: التحديث والديمقراطية وحقوق الانسان
إن السياق المغاربي لا يمكن أن يعيش خارج
العصر، والذي يشكل التحديث والديمقراطية وحقوق الانسان أحد أهم عناوينه.
إن التحديث يتطلب العمل على إعادة هيكلة
الحقل الديني وتنقيته من الشوائب والتعصب والتشدد، وبالتالي تشجيع الاجتهاد ونبذ
الانغلاق مع السعي إلى الحفاظ على الهوية الإسلامية المنفتحة. في السياق نفسه، ينبغي
تأهيل مناهج التعليم والتربية لخلق مدرسة حديثة ومتفتحة على جميع العلوم واللغات.
إن الاندماج المغاربي المتوخى لن يتأتى دون
ترسيخ قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وإشراك إرادات المجتمع المدني
المغاربي. حيث تشكل هذه القيم مدخلا موضوعيا وأساسيا للبناء المغاربي كما يشهد
بذلك الاتحاد الأوربي الذي بني قبل كل شيء على أساس ديمقراطي يحرص على ضمان الحقوق
والحريات الأساسية.
فرغم تأكيد الخطاب السياسي على المستوى
المغاربي على أن بناء تكتل وحدوي هو مطلب جماهيري، إلا أن المنطلقات المعتمدة في
بناء المغرب العربي كانت منطلقات فوقية، بمعنى أن هذا الاتحاد الذي أريد إنشاؤه
منذ الستينيات هو اتحاد الدول والحكومات لا مكانة فيه للمجتمعات المدنية وللشعوب
لإبداء تصورها، ولعل تركيبة اتحاد المغرب العربي خير دليل على ذلك، حيث أنه لا
وجود لهيئة منتخبة من طرف شعوب المنطقة.
في هذا السياق، وانطلاقا من الدور الذي أصبحت
تقوم به منظمات المجتمع المدني بمختلف تجلياتها في ربط التواصل بين المجتمعات،
وكذلك المساهمة في عملية التنمية، فإن الأمر أصبح يقتضي وبالضرورة إعطاءها دور مهم
في البناء المغاربي حتى لا يبقى اتحادا افتراضيا فوقيا.
فكلما تمتعت الشعوب المغارية بالديمقراطية
والحرية كلما تقدم الاندماج المغاربي على أسس صلبة غير قابلة للردة والتراجع. إذ
لا يمكن تصور بناء الاتحاد في ظل أنظمة شمولية تحكم شعوبها بمنظور أمني ضيق، وإن
تم ذلك فإن البناء المغاربي سيكون حتما هشا، ظرفيا لا يلبي رغبات شعوبه ومآله
الفشل.
كما أن المجتمع المدني المغاربي يمكن له أن
يساهم في توطيد الاندماج وتطوير الآليات الملائمة لتفعيل الاتحاد المغاربي، ذلك أن
منظمات المجتمع المدني (جمعيات، منظمات مهنية، جامعات،...) بمختلف تصنيفاتها، يمكن
أن تشكل قوة ضغط على الحكومات من أجل بلورة المشروع المغاربي على أرض الواقع.
لذا ينبغي منح مؤسسات المجتمع المدني مساحة
كافية من الحرية للتحرك والمبادرة على
المستوى المغاربي، لخلق مداخل التواصل بين البلدان المغاربية والمساهمة في تنمية
التعاون بينها وربط جسور للتواصل الدائم بين مواطني الدول المغاربية بما يجعلهم
يتحملون المسؤولية ويساهمون بدورهم الحاسم في البناء المغاربي.
على سبيل الختم:
صفوة القول، إن هذه المداخل لا شك أنها
ستساهم في تفعيل الاتحاد المغاربي الذي ينبغي أن يعمل على تجديد معاهدته وتحيينها
آخذا بعين الاعتبار الاختلالات المؤسساتية التي أعاقت مسيرته، والتحولات الداخلية والإقليمية
التي طبعت المنطقة المغارية، والتجارب الناجحة على مستوى التكتلات الاندماجية.
لقد أصبحت الضرورة ملحة للتخفيف من تكاليف
التحولات الاقتصادية المحلية والإقليمية والدولية باستغلال الإمكانيات المعطلة
والاستفادة من الفرص المهدورة عن طرق بناء تكتل حقيقي يقوم على المصالح والمؤسسات،وليس
على العواطف والشعارات، خاصة وأن هذا
الاتحاد تتوفر له الفرص للتشارك والاندماج المؤسساتي وتتعدد مجالات التعاون والتكامل بين أطرافه. كما أن هذا
التكتل المغاربي سيرتقي في حالة نجاحه إلى
قوة سياسية واقتصادية لها وزن وتأثير علي
الصعيدين العربي والإفريقي.
ومما لاشك فيه أنه حان الوقت لإعادة النظر في معاهدة مراكش بعد ثلاثين سنة من
توقيعها ولم لا التفكير بمعاهدة مغاربية جديدة تأخذ بعين الاعتبار الاختلالات التي
عرقلت البناء المغاربي وذلك باعتماد ميكانيزمات التداول مرنة على مستوى الرئاسة
ومجلس الوزراء وانتخاب البرلمان المغاربي من طرف الشعوب المغاربية بكيفية مباشرة ومنحه
سلطات تقريرية في بعض المجالات وتأسيس محكمة مغاربية تفض في النزاعات التي قد تنشأ
بين أعضائه.
خلاصة القول، إن إحلال منطق التفاهم
والتعاون محل الصراع ومد جسور التواصل بين دول الاتحاد يعد مدخلا أساسيا لتحقيق
شروط التكامل والتنمية المنشودة. غير أن كل هذا، لن يتأتى إلى بتوفر إرادة سياسية
قوية لدى الدول المغاربية وشعوبها قادرة على تحريك القاطرة المغاربية من شللها،
وإعادة القاطرة إلى سكتها الصحيحة.
[1] انظر
j.c. Santucci : « L’unification maghrébine :
réalisations institutionnelles et obstacles politiques »in : l’unité
maghrébine : Dimensions et perspectives »
CNRS,Paris ?1972 ? P.137.
Voir également « Annuaire de l’Afrique du Nord » 1964,
pp.663-664
[2]راجع في هذا الصدد مقالنا، مؤسسات التعاون المغاربي: بين التصور التقنوقراطي والبعد السياسي/الاقتصادي الشامل، مجلة الميادين، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية وجدة، العدد السادس، 1990، ص 63-79.
[3]تمثل ذلك في تأسيس "مكتب المغرب العربي" في فبراير 1947 بالقاهرة.
[4]تعد قاعدة الاجماع قاعدة تقليدية عرفت بداية مراحل التنظيم الدولي، مفادها أن القرارات تصدر بعد الحصول على موافقة جميع الدول الأعضاء وأساسها مبدأ المساواة في السيادة بين جميع الدول.
[5]يكفي أن نعرف أنه من الاتفاقيات الخمسة والثلاثين التي وقعت عليها دول الاتحاد، لم يقع تنفيذ سوى خمسة منها فقط.
[6]أنظر: إنصاف سركلي، مستقبل الاتحاد المغاربي في ظل الوضع الاستراتيجي الجديد، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية، السنة الجامعية 2014/2015، ص 15-73
[7]يوس محمد الصواني، التحديات الأمنية للربيع العربي: من إصلاح المؤسسات إلى مقاربة جديدة للأمن، مجلة المستقبل العربي، عدد 416، أكتوبر 2013.
[8]أنظر مقالنا:
L’initiative marocaine pour le statut d’autonomie de la région du Sahara : pou une solution politique, publié in REMALD, n° 107, Nov-Déc, 2012
[9] حيث ستفتح هذه السوق الباب لفئات واسعة من
المستهلكين تزيد عن 100 ألف.
[10]أنظر: احميدوش مدني، واقع وآفاق التكامل الاقتصادي المغاربي من خلال أرقام وإحصائيات، أشغال الندوة الدولية حول "صعوبات وآفاق تفعيل اتحاد المغرب العربي" وجدة 2009، ص 169-194
إرسال تعليق
اترك تعليقا إن كان لك أي استفسار